منذ عقود، اعتادت فرنسا “المتغطرسة” أن تنظر إلى الجزائر وتتصرف معها وكأنها وصية على قراراتها وسياساتها الاقتصادية، لكن الجزائر ليست تلك الدولة التي تُدار من باريس عبر شبكات النفوذ ورجال المصالح. تحاول فرنسا، بمختلف أدواتها السياسية والإعلامية، أن تمارس ضغوطًا على الجزائر، متناسية أن هذا البلد الذي كسر أغلال الاستعمار بدماء أبنائه لن يقبل بأي وصاية اقتصادية أو سياسية.
في كل مرة تحاول الجزائر أن ترسم مسارًا اقتصاديًا مستقلًا بعيدًا عن الهيمنة الفرنسية، تظهر حملات تشويه وتشكيك، سواء عبر تصريحات رسمية مستفزة أو عبر وسائل الإعلام التي لا تترك فرصة للنيل من الجزائر. باريس، التي تخسر يومًا بعد يوم مكانتها كشريك اقتصادي للجزائر، لم تتقبل بعد أن الأسواق الجزائرية ليست مفتوحة على مصراعيها أمام الشركات الفرنسية. فبعدما كانت فرنسا الشريك الأول في قطاعات استراتيجية، تجد نفسها اليوم مضطرة لمواجهة منافسة شرسة من دول مثل الصين وتركيا وروسيا، وهو أمر لا يبدو أنها مستعدة لقبوله بسهولة.
فرنسا التي نهبت ثروات الجزائر لعقود لا تزال تحاول فرض سيطرتها من خلال الشركات الكبرى لاحتكار قطاعات حيوية. ولكن الجزائر، وبعد عقود من الاستقلال السياسي والاقتصادي، لا تسمح لأي دولة مهما كانت بأي محاولة للسيطرة أو الهيمنة. القرارات السيادية الجزائرية، سواء في الحد من نفوذ الشركات الفرنسية أو في إعادة توجيه الاستثمارات نحو دول أكثر احترامًا للسيادة الوطنية، كانت رسالة واضحة بأن الجزائر لن تخضع لأي ضغوط من الدولة التي لم تستوعب بعد أن مرحلة “الجزائر الفرنسية” انتهت قبل أكثر من 60 سنة بلا رجعة.
لكن ما يزيد الطين بلة هو أن فرنسا لم تكتفِ فقط بمحاولات عرقلة الجزائر اقتصاديًا، بل تحاول التأثير سياسيًا من خلال تصريحات مستفزة وسياسات عدائية. التصعيد السياسي الأخير ما هو إلا محاولة فاشلة لجر الجزائر إلى معارك جانبية، بينما تواصل باريس لعب دورها التقليدي في التدخل بشؤون دول أخرى تحت غطاء الدبلوماسية. لكن الجزائر ليست تلك الدولة التي ترضخ أو تنجر وراء الألاعيب السياسية. فكل محاولات الضغط، من التهديد بتخفيض التأشيرات إلى استخدام الإعلام كأداة تحريضية، لم ولن تؤثر على القرار السيادي الجزائري.
لم تعد الجزائر بحاجة إلى فرنسا، بل العكس هو الصحيح. فرنسا التي تعاني أزمات اقتصادية وتراجعًا في نفوذها الإفريقي، تحتاج اليوم إلى الجزائر أكثر من أي وقت مضى. لكنها بدل أن تتعامل بندية واحترام، اختارت طريق المكابرة والعجرفة، متناسية أن الجزائر لديها اليوم بدائل وشركاء جدد أكثر احترامًا واستعدادًا للتعاون وفق مبدأ رابح-رابح.
عندما قررت الجزائر تنويع اقتصادها والبحث عن شركاء جدد في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والاستثمار، أصيبت باريس بحالة من الهستيريا، وكأن الجزائر لا يحق لها تقرير مصيرها الاقتصادي. فهل كانت فرنسا تتوقع أن تكون الجزائر رهينة لشركاتها وعقودها المجحفة إلى الأبد؟ هل كانت تظن أن عصر الاستغلال سيستمر بلا نهاية؟ الجزائر اليوم بقيادة الرئيس تبون تصوغ نموذجًا اقتصاديًا جديدًا، يعتمد على الانفتاح على أسواق أكثر جدية واحترامًا، بعيدًا عن أساليب الهيمنة الفرنسية التي عفا عليها الزمن.
سياسة باريس الداخلية لها دورها في هذا التوتر، حيث أصبح الهجوم على الجزائر ورقة انتخابية مربحة لبعض السياسيين الفرنسيين، خاصة اليمين المتطرف الذي لا يتوانى عن استخدام لغة استعلائية تجاه الجزائر. لكن هذه السياسات لن تزيد الجزائريين إلا إصرارًا على حماية سيادتهم وكرامتهم الوطنية. كل محاولة للضغط، سواء عبر وسائل الإعلام أو القوانين الجائرة، ستُقابل برفض قاطع، لأن الجزائر ليست الدولة التي يمكن ابتزازها أو تركيعها.
إن فرنسا التي تدّعي أنها بلد الديمقراطية وحقوق الإنسان، هي نفسها التي تحاول فرض إملاءاتها على دولة ذات سيادة. لكنها تناست أن هذا الأسلوب لا يجدي نفعًا مع جزائر اليوم، التي تمتلك من القوة الاقتصادية والدبلوماسية ما يجعلها قادرة على فرض شروطها لا أن تُفرض عليها شروط.
التاريخ يعيد نفسه، وفرنسا التي أُجبرت على مغادرة الجزائر بالقوة ذات يوم، تحاول اليوم العودة بطرق أخرى. لكن الفرق أن الجزائر اليوم في موقع أكثر قوة. القرار الجزائري واضح: لا مكان للهيمنة الفرنسية في اقتصادنا، ولا وصاية على قراراتنا، ومن يريد التعامل معنا، فليتعامل باحترام أو فلينسحب إلى الأبد.