هيئتان جديدتان للاستيراد والتصدير… خطوة حاسمة لتنظيم التجارة ودعم الاقتصاد

تقرير

أمر رئيس الجمهورية، السيد عبد المجيد تبون، خلال اجتماع مجلس الوزراء المنعقد يوم الأحد الفارط، الحكومة بتنصيب وتفعيل الهيئتين الوطنيتين المكلفتين بالاستيراد والتصدير “في غضون شهر”، في خطوة اعتُبرت مفصلية لإعادة تنظيم التجارة الخارجية وتحقيق النجاعة في تسيير المبادلات الاقتصادية.

وتأتي هذه التعليمات الرئاسية لتعكس رؤية استراتيجية جديدة تهدف إلى تنظيم عمليات الاستيراد والتصدير وفق آليات دقيقة وشفافة، وبعيدة عن الحلول الظرفية، ما يمهد لتحول مؤسساتي واسع قد يُعيد رسم ملامح الاقتصاد الوطني في المرحلة المقبلة.

ولطالما شكل قطاعا الاستيراد والتصدير أحد أبرز مفاتيح الاقتصاد الوطني في الجزائر، لكن أداءه ظل لسنوات رهين الارتجال، وضعف التنسيق بين مختلف المتدخلين، ما أفرز اختلالات هيكلية على مستوى السوق، سواء في وفرة المواد أو في التحكم في الأسعار. ومع تكرار الأزمات، باتت الحاجة إلى هيئات تنظيمية متخصصة مسألة استعجالية لضبط التوازنات التجارية ومواجهة التحديات الجديدة، لاسيما في ظل التحولات التي تعرفها الأسواق الدولية.

ويأتي قرار رئيس الجمهورية بتنصيب وتفعيل الهيئتين الوطنيتين كاستجابة مباشرة لهذا الواقع، وكسعي إلى تجاوز منطق التدخل الظرفي نحو رؤية مؤسساتية دائمة. فوفقًا لما ورد في بيان مجلس الوزراء، فإن الهدف من استحداث الهيئتين هو تحقيق النجاعة في التسيير، عبر آليات مبنية على المعلومة الصحيحة، والعمل الاستباقي، والتدخل السريع، بما يتيح اتخاذ قرارات مرنة وفعالة.

كما أن إدماج عدة قطاعات وزارية في عمل الهيئة المخصصة للاستيراد، ووضعها تحت وصاية الوزير الأول، يعكس إرادة سياسية لتوحيد الجهود وضمان التكامل المؤسسي، وهو ما يشير إلى تحول في طريقة تعاطي الدولة مع التجارة الخارجية، من مقاربة تقنية إلى مقاربة استراتيجية تهدف إلى حماية السوق الوطنية، ودعم الإنتاج، وتحفيز التصدير.

هيئة الاستيراد: أداة استباقية لضبط السوق الوطنية

وتُعد الهيئة الوطنية للاستيراد أحد أبرز المحاور في رؤية الإصلاح التي طرحها رئيس الجمهورية، إذ ستُعهد إليها مهمة أساسية تتمثل في تحديد احتياجات البلاد بدقة، والعمل على تنظيم عمليات الاستيراد وفق معايير مدروسة، بعيدة عن الارتجال أو ضغط اللوبيات. ووفق بيان مجلس الوزراء، فإن هذه الهيئة ستعمل بشكل استباقي، معتمدة على قاعدة معلومات موثوقة تسمح بالتدخل السريع والفعال لمواجهة أي اختلال في السوق.

وتحت وصاية الوزير الأول، ستجمع الهيئة بين عدة قطاعات وزارية، مما يضمن تنسيقًا عاليًا بين المتدخلين، ويقلل من تضارب القرارات أو تكرار العمليات. هذه المقاربة متعددة الأطراف تعكس رغبة واضحة في ضمان المرونة والسرعة في اتخاذ القرارات المتعلقة بالاستيراد، خصوصًا في المواد الأساسية ذات الأولوية الاقتصادية والاجتماعية.

وإلى جانب دورها في تنظيم السوق الداخلية، ستسهم الهيئة في كبح النزيف المالي الناتج عن الفواتير المضخمة أو الاستيراد العشوائي، من خلال ضبط قوائم المنتجات المرخصة، وترشيد الاستيراد بما يخدم الإنتاج المحلي، دون الإخلال بتوازن العرض والطلب. بهذا المعنى، تتحول الهيئة إلى أداة رقابة استراتيجية، لا مجرد آلية إدارية.

هيئة التصدير: نحو تسويق استراتيجي للمنتوج الوطني

في المقابل، تأتي الهيئة الوطنية للتصدير كواجهة جديدة لتجسيد الطموح الجزائري في تعزيز موقعه داخل الأسواق الدولية كمصدر للمحروقات، وأيضا كمصدر متنوع يعتمد على المنتجات الفلاحية، الصناعية، والخدمية. ووفقًا لما أكده وزير التجارة الخارجية وترقية الصادرات، فإن استحداث هذه الهيئة يعكس إرادة الدولة في تجاوز المعالجات الظرفية والانطلاق نحو رؤية متكاملة وطويلة المدى.

وستعمل الهيئة على مرافقة المصدرين الجزائريين من خلال توفير الدعم الفني، وتسهيل الإجراءات الإدارية، والتنسيق مع الهيئات الدبلوماسية والتجارية في الخارج لفتح أسواق جديدة. كما يُنتظر منها أن تلعب دورًا في رفع جودة المنتجات الموجهة للتصدير، وضمان مطابقتها للمعايير الدولية، ما يُحسّن من صورة “العلامة الجزائرية” في الخارج ويزيد من تنافسيتها.

وبالإضافة إلى دورها الترويجي، ستسعى الهيئة إلى تفعيل آليات اليقظة التجارية والاستخبارات السوقية، عبر تحليل اتجاهات الطلب الخارجي، وتحديد الفرص حسب طبيعة الأسواق المستهدفة. هذا العمل الاستباقي سيُسهم في رفع نسبة التصدير خارج قطاع المحروقات، وهو أحد الأهداف المركزية في استراتيجية الحكومة لتنويع الاقتصاد الوطني.

أي أثر مرتقب على الاقتصاد الوطني؟

إطلاق الهيئتين الوطنيتين للاستيراد والتصدير يُعد خطوة مؤسساتية جريئة ستنعكس على الاقتصاد الوطني في عدة مستويات. فمن جهة، ستُسهم هيئة الاستيراد في تقليص النفقات غير الضرورية من العملة الصعبة، من خلال ضبط العمليات وتقنين الاستيراد وفقًا للحاجيات الفعلية للاقتصاد، وهو ما من شأنه تعزيز ميزان المدفوعات وتحقيق نوع من الانضباط التجاري.

أما من جهة التصدير، فإن الهيئة الجديدة تُشكّل منصة استراتيجية لدفع الصادرات الجزائرية، لاسيما في القطاعات غير النفطية، عبر توسيع القاعدة التصديرية، وتنويع الأسواق، وإدماج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الديناميكية التصديرية. هذه الخطوة ستُسهم في دعم النمو، وزيادة المداخيل بالعملة الصعبة، وتقليص التبعية للمحروقات، وهي أبعاد لطالما كانت من أولويات السياسة الاقتصادية الوطنية.

وتأتي الهيئتان أيضًا كاستجابة مباشرة لمطالب المستثمرين والمصدرين، خاصة عبر مجلس التجديد الاقتصادي الجزائري، الذي ظل ينادي منذ سنوات بإصلاح بيئة التجارة الخارجية. وبالتالي، فإن الأثر المتوقع يتجاوز مجرد التنظيم الإداري، ليُترجم إلى ديناميكية اقتصادية أوسع ترتكز على الشفافية، الفعالية، والاستغلال الأمثل للفرص التجارية الإقليمية والدولية.

وعليه، يمثّل تنصيب الهيئتين الوطنيتين للاستيراد والتصدير تحوّلًا مهمًا في إدارة التجارة الخارجية للجزائر، وخطوة عملية لتجسيد رؤية اقتصادية جديدة قائمة على الحوكمة، وتجاوز التدخلات الظرفية، نحو أدوات تنظيمية مستقرة ودائمة. وإذا ما تم تفعيل هذه الهيئات وفق الآليات المعلنة وبإشراك فعلي لكل القطاعات المعنية، فإنها قد تشكل نقطة انعطاف حقيقية في مسار تصحيح الاختلالات التجارية، وتحسين الأداء العام للاقتصاد الوطني.

غير أن نجاح هذه المبادرة سيظل مرهونًا بسرعة التطبيق، وفعالية التنسيق بين الفاعلين، والقدرة على المتابعة المستمرة والتقييم الدوري. فالمرحلة المقبلة تتطلب إرادة تنفيذية، وانخراطًا كاملاً لكل الأطراف لتحقيق الأهداف المعلنة. وبين طموح الإصلاح وواقع السوق، تبقى النتائج رهينة جدية التنفيذ والتزام الدولة بمرافقة هذا التوجه حتى النهاية.