كان مساء الأحد يحمل نسمات هواء لطيفة مع تراجع حرارة النهار. الساعة تشير إلى الخامسة عصرًا عندما وصلت الى مدخل سوق باب الزوار اليومي شرق الجزائر العاصمة، أول من قابلني كان حارس “الباركينغ” الذي كان يسير بخطوات متسارعة نحوي سبقها صياحه العالي بنبرته الحازمة التي سرعان ما تبدلت إلى نبرة ودية ومرحبّة عندما أدرك أنني صحفي من الجريدة الإلكترونية “سهم ميديا“.
عند دخولي السوق، قابلتني الألوان الزاهية للمآزر والأدوات المدرسية التي تملأ المكان، كل شيء يباع هنا كراريس، دفاتر ، حقائب وأقلام. ضجيج وصيحات الباعة تتعالى أمام حديث المشترين مع أبنائهم… السوق ينبض بالحياة وكأن اليوم لتوه قد بدأ.
أخذت أمشي ببطء بين أروقة هذا السوق التي تضايقت بالسلع والأدوات المدرسية. على إحدى الطاولات كانت تُعرض كراريس بألوان وأحجام مختلفة، ومن بين الأصوات المزدحمة، سمعت “حميد”، وهو يحادث ابنته “لبنة” ذات 7 سنوات، التي تعايش هذا الحدث للمرة الثانية بعدما عايشته لأول مرة الموسم الماضي، ويختار معها بعض الأدوات التي تحمل ألوانا مزركشة ورسومات جميلة.
سألت “حميد” عن الأسعار مقارنة بالعام الماضي، أوضح لي أن الأسعار ارتفعت قليلاً، ولكنه لم يكن متفاجئاً، “كل شيء يرتفع مع مرور الوقت” قال لي. وأضاف: “أحاول دائماً شراء ما تحتاجه فقط، ولكن الأطفال دائماً يميلون للأدوات التي تحمل رسومات وشخصيات مفضلة لديهم”.
لفت انتباهي الدفتر الذي كانت تمسكه “لبنة”، فسألتها عن اختيارها، لتجيب بخجل وابتسامة أنها تحب الألوان وتريد الدفتر لأنه يحمل صورة “إلسا” من رسومها المتحرك المفضل. “يبدو أنك متحمسة للعودة إلى المدرسة” قلت لها لكن الخجل منعها من الكلام. ضحك “حميد” وأردف قائلاً: “نعم، إنها متحمسة جداً، لكنني أذكرها دائماً أن الأهم هو التعلم وليس فقط الأدوات المدرسية الجميلة”.
غير بعيد، لفت انتباهي صوت البائع “أسامة”، الذي كان يقف فوق طاولة مكدسة بالأدوات المدرسية وينادي بصوت مرتفع لجذب الزبائن. اقتربت منه، وبدأت حديثي معه. رغم أنه لم يكن مركزا تماما معي بسبب كثرة الزبائن الملتفين بطاولته، الا أنه اختزل كلامه قائلا “تجارتي موسمية، قبل أيام كنت أبيع المفرقعات بمناسبة المولد النبوي، والآن تحولت إلى بيع الأدوات المدرسية”.
كانت الطاولة أمامه مليئة بالكراريس والحقائب والمآزر الملونة، وأردف قائلاً: “أحاول دائماً التكيف مع متطلبات السوق لكن الشيء الذي أنا مقتنع ومتأكد منه أنه رغم الغلاء الا أن الناس هنا يشترون بكثرة”.
الأسعار… بين مقتنع ومتذمر
بينما كنت أتجول في السوق وأراقب حركة البيع والشراء، لاحظت تبايناً في ردود أفعال المتسوقين تجاه الأسعار. تحدثت جانبياً مع “فريدة”، وهي أم لثلاثة أطفال، كانت تبدو مترددة وهي تختار الأدوات المدرسية لأبنائها. سألتها عن رأيها في الأسعار هذا العام، فأجابت بنبرة مختلطة بين الرضا والتذمر: “الأسعار مرتفعة بعض الشيء، لكنني تعودت على ذلك. كل عام ترتفع الأسعار قليلاً، ولا يمكننا الاستغناء عن هذه الأشياء. المهم هو أن أشتري الأدوات الأساسية فقط، وأحاول توفير ما أستطيع”.
من جانبها، كانت “نجية”، وهي أم لطفلين، أكثر تذمراً. تحدثت معي وهي تفحص حقيبة مدرسية: “الأسعار هذا العام مبالغ فيها. لا أستطيع تصديق أن راتبي الشهري كاملا لا يكفيني لشراء كل الأدوات المدرسية والكتب لطفليي! نحن في وضع صعب، والأسعار لا ترحم”. بدت عليها علامات الاستياء وهي تكمل جولتها بين الباعة.
في زاوية أخرى من السوق، اقتربت من “ابتسام”، وهي أم لطفل واحد، كانت تبدو هادئة ومسترخية بينما تتفقد الأدوات المدرسية. عندما سألتها عن رأيها في الأسعار هذا العام، أجابت بابتسامة هادئة: “لدي طفل واحد فقط، لذلك لا تهمني الأسعار كثيراً. الأهم بالنسبة لي هو أن يفرح ابني عندما يرى أدواته المدرسية الجديدة. إنه ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، وأحب أن أراه سعيداً مع بداية العام الدراسي”.
بدت “ابتسام” مختلفة في رد فعلها عن المتسوقين الآخرين الذين قابلتهم، حيث كانت تركز على الجودة وتجربة ابنها أكثر من اهتمامها بتكاليف الأدوات. “صحيح أن الأسعار ارتفعت، لكنني أحاول دائماً شراء ما يحتاجه بالفعل بنوعية جيدة لكن دون مبالغة. في النهاية، الأمر يتعلق بفرحة طفلي”.
على الجانب الآخر، تحدثت مع البائع “سفيان”، الذي كان منهمكاً في ترتيب أدواته على الطاولة. قال لي بعدما حدثه عن الأسعار: “أعرف أن بعض الناس يشتكون من الأسعار، ولكن حتى نحن الباعة نواجه نفس المشكلة. أسعار الجملة ارتفعت، وكل شيء أصبح أغلى من قبل. نحن نحاول أن نكون مرنين مع الزبائن، لكن في النهاية لا يمكننا البيع بأقل من سعر التكلفة”.
ارتفاع جودة الأدوات المدرسية
بعد الانتهاء من جولتي في سوق باب الزوار، قررت التوجه نحو بلدية برج الكيفان، وتحديداً إلى محل “تيكنو” المعروف ببيع الأدوات المدرسية. عند وصولي إلى المحل، استقبلتني الموسيقى التي تملأ المكان ولفت انتباهي تنظيم البضاعة وهدوء المكان مقارنة بضجيج السوق في باب الزوار. كان المحل يعرض مجموعة واسعة من الأدوات المدرسية، بدءًا من الدفاتر والأقلام وصولاً إلى الحقائب والمآزر، وكلها مرتبة بشكل أنيق على الأرفف.
بمجرد دخولي، توجه نحوي مباشرة أحد عمال المحل بابتسامة ودودة. تجاذبنا أطراف الحديث حول الإقبال هذا الموسم مقارنة بالمواسم السابقة، فقال: “محلنا يستقطب عادة الزبائن الذين يبحثون عن الجودة والراحة في التسوق، خاصة العائلات التي ترغب في شراء كل شيء من مكان واحد دون الحاجة للتنقل بين عدة أماكن”. وأضاف: “البعض يشتكون من غلاء وارتفاع الأسعار هذا العام، لكن الأمر عكس ذلك تماما، الأسعار هذا العام في المعقول مقارنة مع السنتين الماضيتين”.
داخل المحل تحدثت مع “نوال” وهي أم لطفلين “أنيس” و”سناء”، كانت تتنقل ومعها طفليها بين الأدوات بحذر. “مع كل عام دراسي يكون هذا المحل مكاني المفضل، كل الخيارات متاحة، لكنني أركز على الجودة أكثر من السعر” قالتها بلغتها الفرنسية الممزوجة ببعض العربية “الدارجة”، ثم أردفت “أحب أن أقتني لأطفالي أدوات تدوم طوال العام الدراسي”، قالت “نوال” وهي تفحص إحدى المحافظ المدرسية المتينة.
ميزانيات مختلفة، واختيارات متعددة
من خلال تجولي في سوق باب الزوار ومحل “تيكنو” في برج الكيفان، لاحظت أن الأولياء قد خصصوا ميزانيات مختلفة لشراء الأدوات المدرسية، تتفاوت بين العائلات بناءً على قدراتهم المادية واحتياجات أبنائهم.
في سوق باب الزوار، كان التركيز على الحصول على الأساسيات بأقل التكاليف الممكنة. حيث يسعى الكثيرون إلى توفير ما يستطيعون لتلبية حاجات أبنائهم، وسط ارتفاع الأسعار المتزايد. أما في محل “تيكنو”، فقد بدا واضحاً أن الزبائن هناك يفضلون الجودة والراحة على حساب السعر. مستعدين لدفع المزيد من أجل الحصول على أدوات مدرسية تدوم لفترة أطول وتوفر الراحة لأطفالهم.
“حميد”، الذي قابلته في سوق باب الزوار، كان يحاول الالتزام بميزانية محدودة، مكتفياً بشراء الأساسيات فقط. في حين كانت “ابتسام” أكثر استعداداً لإنفاق المزيد من المال لإسعاد طفلها الوحيد. مشيرة إلى أن فرحته هي الأهم بالنسبة لها. أما في محل “تيكنو”، فكان الزبائن يميلون إلى اختيار العلامات التجارية الموثوقة رغم ارتفاع أسعارها. مؤكدين أن الاستثمار في أدوات مدرسية جيدة هو خيار طويل الأمد يوفر عليهم المال والجهد لاحقاً.
من خلال حديثي مع هؤلاء الأولياء أيضا، أصبح واضحاً أن ميزانية شراء الأدوات المدرسية تختلف باختلاف عدد الأبناء والاحتياجات. ومع ذلك، كانت معظم الأسر قادرة على تلبية احتياجات أبنائها بفضل التنوع في الأسعار والعروض التي توفرها المحلات.
هذه التباينات في الميزانيات المخصصة للأدوات المدرسية تعكس واقعاً اقتصادياً واجتماعيا مختلفاً لكل أسرة. حيث يحاول البعض الموازنة بين ارتفاع الأسعار والاحتياجات الأساسية. في حين يجد آخرون في الجودة والحفاظ على راحة أطفالهم أولوية أكبر.
في النهاية، يبدو أن موسم الدخول المدرسي ككل عام يعكس واقعاً اقتصادياً معقداً تعيشه الأسر الجزائرية. تباين الأسعار وتفاوت القدرات المالية بين الأسر يبرزان التحديات التي تواجه العديد من الأولياء في تأمين مستلزمات أبنائهم مع اقتراب العام الدراسي.
ورغم هذه التحديات، فإن الفرحة والاستعداد للمدرسة تبقى حاضرة في أعين الأطفال. حيث يجد الآباء دائماً طريقة لتلبية احتياجات أبنائهم، سواء من الأسواق الشعبية أو المحلات التجارية الفاخرة.
وبين من يفضل السعر المناسب ومن يبحث عن الجودة العالية. يبقى موسم الأدوات المدرسية محطة حيوية تجمع الأسر. وتعيد الأمل في مستقبل تعليمي أفضل لأبنائهم.
بدأت الشمس بالغروب، وارتفع صوت آذان المغرب من جامع الجزائر الذي تعلو منارته المكان. ليعلن نهاية أمسية يوم كانت حافلة بلقاءات متنوعة ومشاهد تعكس واقع الحياة اليومية للمواطنين في الجزائر.