في الذكرى السبعين لاندلاع ثورة التحرير الجزائرية، تعود بنا الذاكرة إلى الأول من نوفمبر 1954، حين اندلعت شرارة التحرر من الاستعمار الفرنسي، لتكتب قصة كفاحٍ شعب بأسره من أجل الحرية والكرامة.
لقد كانت هذه الثورة نقطة تحولٍ في تاريخ الجزائر، إذ حملت قيم التضحية والوحدة والصمود في مواجهة أعتى قوى العالم آنذاك. والآن، ونحن نحيي ذكرى هذه الثورة، نجد أنفسنا أمام تساؤلات حتمية حول رسالتها ودروسها، وما يمكن أن تقدمه لمواجهة التحديات الجسام التي تحيط ببلدنا في هذه اللحظة من التاريخ.
الثورة الجزائرية كانت صراع مسلح، ومدرسة متكاملة للحرية والعزة الوطنية. لقد أسست قيماً وطنية لا تزال تنير طريقنا اليوم. إن استذكار هذه الدروس يعني استرجاع قيم النضال والتضحية من أجل الوطن، وهو أمر حتمي في مواجهة المخاطر المعاصرة التي تهدد الجزائر. ففي ظل الأوضاع الجيوسياسية المتوترة والإقليمية الملتهبة، حيث تتزايد التهديدات من مختلف الجهات، تبرز ضرورة تمسكنا بهذه القيم. التحولات الدولية وصراعات القوى الكبرى تؤثر بشكل مباشر على استقرار منطقتنا، مما يجعل حماية سيادة الجزائر تحديًا يستدعي الوحدة الوطنية وترسيخ الروح النوفمبرية.
وبالتزامن مع هذه الذكرى العزيزة، شهدت الجزائر يوم 1 نوفمبر 2024 استعراضًا عسكريًا ضخمًا، حمل رسائل واضحة وقوية لكل من تسول له نفسه المساس بأمن البلاد أو استقرارها. لقد كان هذا الاستعراض بمثابة تأكيد على جاهزية الجيش الجزائري وقدرته على حماية السيادة الوطنية، بل وأكثر من ذلك، كان إعلانًا للعالم أن الجزائر متمسكة بسيادتها ولن تتهاون أمام أي تهديد. رسائل هذا الاستعراض ليست مجرد استعراض للقوة، بل تجسيدٌ لعقيدة وطنية راسخة لدى الجيش، الذي يبقى درعًا حصينًا لوطننا ومكتسباته.
رغم التحديات والصعاب، تواصل الجزائر بناء دولة حديثة وقوية، متجاوزة كل العقبات والتحديات الداخلية والخارجية. مشاريع التنمية الاقتصادية والبنية التحتية تشهد على إرادة الدولة في تحقيق التقدم والرفاهية للشعب، مواصلةً مسيرة التحرر التي لم تتوقف عند الاستقلال، بل اتسعت لتشمل كل مجالات الحياة. بناء الجزائر الجديدة ليس مهمة سهلة، بل هو تحدٍّ يتطلب العمل الجاد والإخلاص والإيمان بأن الوطن يستحق التضحية. فالوفاء لدماء الشهداء يعني العمل على تأسيس دولة قوية، اقتصادية واجتماعية، تحقق آمال وطموحات الأجيال.
معركة الجزائر لم تنتهِ؛ إنها مستمرة في ميادين أخرى مثل محاربة الفساد الذي يعتبر تهديدًا للاستقرار والتنمية. إن الفساد آفة تلتهم جهود التنمية، ويعاني منه المواطن البسيط قبل أي أحد آخر. ومن هنا تأتي جهود الدولة في محاربته كاستجابة طبيعية لتطلعات الشعب، ووفاء لرجال الثورة الذين ضحوا من أجل أن يعيش المواطن الجزائري بكرامة وعدالة. العمل على ضمان العيش الكريم للمواطنين اليوم هو جزء من رسالة الثورة؛ إنه امتداد للتضحيات التي قدمها الشهداء من أجل وطن خالٍ من الظلم والفساد.
ولا يمكننا الحديث عن استمرارية الثورة دون تسليط الضوء على دور الشباب الجزائري في بناء المستقبل. فهم حملة مشعل الاستقلال والتنمية، وعليهم تقع مسؤولية حمل رسالة الشهداء والاستمرار في تحقيق الأهداف الوطنية. رؤية الجزائر للمستقبل، وخاصة رؤية 2030، تأتي كتجسيد لهذا الالتزام بمسيرة النضال، وتضع الخطوط العريضة لبناء جزائر متطورة واقتصاد قوي يواكب التحديات العالمية.
ختامًا، سبعون عامًا مرّت، وما زالت روح نوفمبر تنبض في قلوب الجزائريين. إن الحفاظ على تضحيات الشهداء واجبٌ وطنيّ يتطلب منّا التكاتف والعمل المشترك لضمان جزائر حرة مستقلة وقوية على الساحة الدولية. ومع هذه الذكرى، نقف إجلالاً لدماء الشهداء التي روت هذه الأرض، ونجدد العهد أن تبقى الجزائر كما أرادوها، وطنًا آمنًا كريمًا يحقق آمال أبنائه ويواجه تحدياته بثبات وعزيمة لا تلين.