الجزائر تستعد لعصر السرعة الفائقة: الجيل الخامس يدخل الخدمة منتصف 2025

تكنولوجيا

تستعد الجزائر لدخول عصر جديد من الاتصالات الرقمية بإعلانها المرتقب عن إطلاق تقنية الجيل الخامس (5G) خلال النصف الثاني من عام 2025، في خطوة تعتبر مفصلية ضمن مسار التحول الرقمي وتعزيز البنية التحتية التكنولوجية للبلاد. ومع تصاعد التطلعات نحو خدمات أسرع وأكثر ذكاءً، يترقب المواطنون والفاعلون الاقتصاديون على حد سواء هذا التحول الذي قد يعيد رسم خارطة الاتصالات والاقتصاد الرقمي في الجزائر.

في السنوات الأخيرة، كثّفت الجزائر جهودها لتحديث شبكاتها الرقمية ومواكبة التحولات العالمية في قطاع الاتصالات، وهو ما تجلى في استثمارات ضخمة تجاوزت مليار دولار سنويًا لتوسيع النطاق الترددي وتعزيز البنية التحتية. وقد كانت هذه الخطوات بمثابة التمهيد العملي لإدماج تقنية الجيل الخامس، التي تُعدّ اليوم من أبرز ركائز الاقتصاد الرقمي الحديث.

إطلاق الجيل الخامس يندرج ضمن رؤية شاملة تسعى من خلالها الحكومة الجزائرية إلى تعزيز السيادة الرقمية وتحقيق قفزة نوعية في مجالات حيوية كالصحة، والصناعة، والتعليم. وقد رافق هذه الرؤية إعداد قانون جديد ينظم الخدمات الإلكترونية ويضمن بيئة رقمية آمنة، ما يُظهر الوعي الرسمي بضرورة تهيئة الإطار القانوني والمؤسساتي قبل تعميم هذه التكنولوجيا.

وإلى جانب التحضير الحكومي، برزت شركات الاتصالات الوطنية كشريك فعّال في هذا المسار، من خلال إطلاق سلسلة من التجارب التقنية في كبريات المدن الجزائرية بالتعاون مع عمالقة التكنولوجيا العالميين. وقد أكدت هذه التجارب قدرة الشبكات المحلية على استيعاب متطلبات الجيل الخامس، ما يعزز من مصداقية موعد الإطلاق المرتقب.

كل هذه المؤشرات تدل على أن الجزائر تنظر إلى الجيل الخامس كأداة استراتيجية لتعزيز النمو الاقتصادي، وتحسين جودة الحياة، وتحقيق التحول الرقمي الشامل.

إطلاق مرتقب… والوزارة ترسم خارطة طريق تقنية وتنظيمية

أكد وزير البريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، السيد سيد علي زروقي، أن الجزائر تُحضّر لإطلاق شبكة الجيل الخامس خلال النصف الثاني من سنة 2025، موضحًا أن المشروع يشهد حاليًا مرحلة “دراسات معمقة” تشمل الجوانب التقنية والمالية والتنظيمية، بما يضمن إطلاقًا سلسًا ومدروسًا لهذه التقنية المتطورة.

هذا التصريح الرسمي جاء ليضع حدًا للتكهنات التي رافقت التأخر النسبي في دخول الجزائر نادي الدول التي تعتمد 5G، مبرزًا في الوقت ذاته أن الحكومة تتعامل مع المشروع باعتباره “استراتيجيا”، لا مجرد تحديث تقني. وفي هذا الإطار، تتم عمليات التقييم بالتنسيق مع الفاعلين الاقتصاديين والشركاء الدوليين، لضمان أعلى معايير الجودة والأمان السيبراني.

وتراهن الحكومة الجزائرية على أن يكون هذا الإطلاق مدخلاً لتعزيز الاقتصاد الرقمي الوطني، من خلال توفير سرعات اتصال غير مسبوقة تُمكن من ظهور تطبيقات ذكية في قطاعات الصناعة، والنقل، والصحة، والتربية. كما يُتوقع أن يساهم ذلك في تحسين الخدمات العمومية وتعزيز التفاعل بين المواطن والإدارة.

وفي سياق موازٍ، تعمل الحكومة على سنّ إطار قانوني ينظم المعاملات الرقمية والخدمات الإلكترونية، يهدف إلى تأمين البيئة الرقمية وضبط التعريفات والتصديقات الإلكترونية، وهو ما يُعدّ شرطًا أساسيًا لإنجاح إدماج الجيل الخامس.

وتشمل خارطة الطريق التي ترسمها الوزارة البنية التحتية، وأيضًا تهيئة الأطر القانونية والتجارية، ما يعكس مقاربة شمولية توازن بين الابتكار والحكامة، وتُمهّد لتحول رقمي مستدام ومنضبط في الجزائر.

تجارب ناجحة على الأرض… شركات الاتصالات تُثبت الجاهزية

وفي موازاة التحضيرات الحكومية، برزت شركات الاتصالات الوطنية كلاعب رئيسي في مسار إدماج تقنية الجيل الخامس، حيث قامت كل من “جازي” و”موبيليس” بإجراء تجارب ميدانية ناجحة في عدة ولايات، أثبتت قدرة شبكاتها على استيعاب هذه التكنولوجيا المتطورة.

شركة جازي، بالشراكة مع عملاقي التكنولوجيا “هواوي” و”نوكيا”، أجرت اختبارات في الجزائر العاصمة، وهران، وعنابة، وحققت سرعات اتصال تجاوزت 1.5 غيغابايت في الثانية. كما أعلنت عن استعدادها لإجراء اختبارات إضافية مع شركة “ZTE” في ولاية تلمسان، ما يدل على التزامها بتوسيع التجارب نحو ولايات أخرى، في تناغم مع البرنامج الوطني للانتقال الرقمي.

وبدورها، كشفت موبيليس عن إجرائها تجارب أولية ناجحة في العاصمة، أظهرت من خلالها “استجابة أعلى بكثير من الجيل الرابع”، بحسب تصريحات مسؤوليها. وأوضحت مديرة الاتصال بالشركة، فرح أوشعبان، أن هذه التقنية تفتح الباب أمام تطبيقات مبتكرة مثل الطب عن بُعد، التعليم الرقمي، وإنترنت الأشياء.

الاختبارات شملت أيضًا تقييم قدرة الشبكة على تحمل عدد كبير من الأجهزة المتصلة في آن واحد، وهي ميزة جوهرية للجيل الخامس تبرز أهميته في المناطق الحضرية ذات الكثافة السكانية العالية. كما كشفت هذه التجارب عن تماشي الشبكات الجزائرية مع المعايير الدولية، مما يُعزز ثقة السلطات في جاهزية المتعاملين.

ويعد نجاح هذه التجارب التقنية مؤشراً إيجابياً على أن الجزائر باتت قاب قوسين أو أدنى من الدخول الفعلي في عصر الجيل الخامس، ويعكس جدية الفاعلين في مواكبة التطورات التكنولوجية بما يخدم طموحات الدولة والمواطن معاً.

فرص اقتصادية واعدة… كيف يغيّر الجيل الخامس وجه القطاعات الحيوية؟

وبالاضافة الى تحسين جودة الاتصالات، يمتد تأثير الجيل الخامس إلى إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي والاجتماعي في الجزائر، حيث يُرتقب أن يكون لهذه التقنية دور جوهري في تطوير قطاعات حيوية واستحداث فرص جديدة للنمو والتوظيف.

ففي قطاع الصحة، يُنتظر أن تتيح شبكة الجيل الخامس تطبيقات متقدمة في الطب عن بُعد، تُمكن الأطباء من تشخيص الحالات ومعالجة المرضى في مناطق نائية بفضل سرعة الاتصال العالية وزمن الاستجابة المنخفض. هذا التحول سيُساهم في تقليص الفوارق الصحية بين الولايات وتحسين الخدمات الطبية.

أما في مجال الصناعة، فإن الجيل الخامس يُشكل بنية تحتية ضرورية لتطبيقات “المصانع الذكية”، التي تعتمد على الأتمتة وإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي. ومع هذا التوجه، ستكون المؤسسات الصناعية الجزائرية أمام فرصة حقيقية لتعزيز قدرتها التنافسية ورفع مستوى الإنتاجية والجودة.

وفي قطاع التربية، ستُمكن تقنية الجيل الخامس من تعميم التعليم عن بعد بطريقة أكثر سلاسة وفعالية، لا سيما في المناطق المعزولة. كما ستُحفز بيئة تعليمية رقمية جديدة تعتمد على الواقع الافتراضي والتجارب التفاعلية، ما قد يُحدث ثورة في طرق التدريس والتعلّم.

من جهة أخرى، فإن النشر الواسع لشبكة الجيل الخامس يُتوقع أن يخلق مناصب شغل جديدة في مجالات البرمجيات، والهندسة، والخدمات التقنية، إضافة إلى تحفيز بيئة ريادة الأعمال وابتكار حلول رقمية في قطاعات متنوعة، مما يُعطي دفعة قوية لمسار التنويع الاقتصادي الذي تسعى إليه الجزائر.

تحديات البنية التحتية والتشريعات… هل الجزائر مستعدة فعلاً؟

رغم الأفق الواعد لتقنية الجيل الخامس في الجزائر، إلا أن الطريق نحو اعتمادها واسع النطاق لا يخلو من تحديات بنيوية وتشريعية قد تؤخر الاستفادة القصوى منها. وتكمن أبرز هذه التحديات في ضرورة تحديث البنية التحتية القائمة، وتوفير استثمارات ضخمة تواكب متطلبات هذه التكنولوجيا.

فعلى المستوى التقني، ما تزال تغطية شبكة الألياف البصرية غير مكتملة، رغم التحسن الملحوظ الذي شهدته في السنوات الأخيرة. فقد ارتفع عدد الأسر المرتبطة بالإنترنت من 3.5 إلى 6 ملايين، إلا أن الوصول إلى نسبة 80% يتطلب جهودًا إضافية، خاصة في المناطق الداخلية والجنوبية، حيث يُعتبر الاتصال الضعيف عائقًا أمام أي قفزة رقمية.

أما على المستوى القانوني، فإن مشروع القانون الجديد المتعلق بالخدمات والتعريفات الإلكترونية يُعدّ خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنه ما يزال في طور الدراسة، ويُنتظر أن يُوفر بيئة تنظيمية موثوقة تحفز المستثمرين وتؤمن المعاملات الرقمية. فغياب إطار قانوني متكامل يُعد من العوامل التي قد تعيق استغلال قدرات الجيل الخامس في الابتكار والخدمات الذكية.

إلى جانب ذلك، هناك تحديات تتعلق بالتكلفة المرتفعة لنشر شبكات 5G، سواء بالنسبة للدولة أو لمتعاملي الهاتف النقال، الذين سيحتاجون إلى دعم مالي واستثماري، وربما شراكات دولية، لضمان تعميم التقنية بجودة عالية وأسعار تنافسية.

كما يبرز تحدٍ آخر يتمثل في الحاجة إلى رفع الوعي المجتمعي بشأن استخدام هذه التقنية بشكل آمن ومسؤول، لا سيما في ظل التغيرات التي ستطرأ على طبيعة التفاعل مع الإنترنت والمحتوى الرقمي. لذلك، فإن نجاح الانتقال نحو الجيل الخامس يتوقف على التكنولوجيا وعلى التكامل بين البنية، والتشريع، والتكوين، والتثقيف.

نحو تحول رقمي شامل مدفوع بالجيل الخامس

ويمثّل دخول الجزائر إلى عالم الجيل الخامس خطوة مفصلية في مسارها نحو التحول الرقمي وبناء اقتصاد المعرفة، لما تحمله هذه التكنولوجيا من إمكانات كبيرة لإعادة تشكيل القطاعات الحيوية وتحسين جودة الحياة. وبين جاهزية الشركات، واستعدادات الدولة، وتطلعات المجتمع، يبدو أن الجزائر وضعت قدمها على أول الطريق نحو المستقبل الرقمي.

غير أن النجاح في هذا المسار يتطلب مواصلة الاستثمار في البنية التحتية، وتسريع وتيرة الإصلاحات التشريعية، وتعزيز المهارات التقنية، لضمان الاستخدام الأمثل لهذه التكنولوجيا. فالجيل الخامس هو تطور في سرعة الاتصال، ورافعة تنموية حقيقية يمكن أن تُحدث قفزة نوعية في مختلف مناحي الحياة إذا ما استُثمرت بشكل مدروس ومتكامل.