افتتاحية سهم الشعب يختار الاستمرارية ومواصلة البناء

الأمن الغذائي.. الطريق نحو السيادة

افتتاحية سهم

مع انطلاق موسم الحرث والبذر للعام 2024-2025، تدخل الجزائر مرحلة جديدة من سعيها المستمر لتحقيق الأمن الغذائي. هذا الهدف الاستراتيجي أصبح ضرورة ملحة، خصوصًا في ظل الأزمات الغذائية العالمية والتقلبات المناخية التي تهدد الأمن الغذائي لدول عديدة. الحكومة الجزائرية وضعت نصب أعينها تقليص الاعتماد على الواردات الغذائية، وخاصة الحبوب التي تعتبر من السلع الأساسية التي تستهلكها الأسر الجزائرية بكثرة.

الأرقام الرسمية التي أعلنتها وزارة الزراعة، والمتمثلة في زراعة 3.7 مليون هكتار خلال هذا الموسم، تعكس الطموح الكبير الذي يسعى لتحقيقه القطاع الزراعي. هذه المساحة تهدف إلى زيادة الإنتاج الوطني من الحبوب وتخفيف فاتورة الواردات التي تكلف البلاد مليارات الدولارات سنويًا. ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم: هل تكفي هذه الأهداف الطموحة وحدها لتحقيق الأمن الغذائي أم أن هناك تحديات أعمق تعيق الوصول إلى هذا الهدف؟

أحد أبرز التحديات التي تواجه القطاع الزراعي في الجزائر هو التغير المناخي الذي أدى إلى تذبذب معدلات هطول الأمطار وزيادة فترات الجفاف. هذه التغيرات المناخية أصبحت تؤثر على كمية المياه المتاحة للزراعة وحتى على نوعية المحاصيل ومواعيد زراعتها. المناطق الزراعية الكبرى في الجزائر، وخاصة في المناطق الشمالية، تعتمد بشكل كبير على الأمطار، مما يعني أن أي خلل في الموسم المطري يؤثر بشكل مباشر على الإنتاجية.

بالإضافة إلى ذلك، تعاني الجزائر من شح الموارد المائية، خاصة في المناطق الجنوبية والشرقية. العديد من المناطق الزراعية تعتمد على تقنيات الري التقليدية، التي تستهلك كميات كبيرة من المياه دون تحقيق كفاءة عالية. هذا الأمر يتطلب تبني سياسات ري متطورة تعتمد على التقنيات الحديثة مثل الري بالتنقيط وإدارة الموارد المائية باستخدام التكنولوجيا لتحسين الإنتاجية والحفاظ على الموارد.

إقرأ أيضا: الشعب يختار الاستمرارية ومواصلة البناء

على الرغم من التحديات المائية والمناخية، إلا أن هناك فرصاً حقيقية يمكن أن تساهم في تطوير القطاع الزراعي وزيادة الإنتاج. التكنولوجيا الزراعية بدأت تأخذ حيزاً أكبر في الجزائر، حيث تم تبني تقنيات الزراعة الدقيقة التي تعتمد على البيانات لتحسين كفاءة الإنتاج. هذه التقنيات تتيح للمزارعين مراقبة الحقول بشكل مستمر، وتحديد احتياجاتها من المياه والأسمدة في الوقت المناسب، مما يساعد على تحسين المحصول وتقليل الفاقد.

كما أن هناك مبادرات حكومية تهدف إلى دعم الرقمنة في القطاع الزراعي، مثل توفير تطبيقات زراعية تساعد المزارعين على اتخاذ قرارات أفضل، بالإضافة إلى استخدام الطائرات بدون طيار لمراقبة الحقول وتقييم جودة المحاصيل. هذه الابتكارات توفر حلولاً فعالة للتغلب على مشاكل المناخ وشح الموارد.

لكن الاعتماد على التكنولوجيا وحدها لا يكفي. فهناك حاجة إلى دعم البنية التحتية الزراعية لتوفير الموارد والتدريبات للمزارعين على استخدام هذه التقنيات بشكل فعال. كما أن تحسين سلاسل التوريد المحلية وخلق أسواق داخلية قوية لبيع المنتجات الزراعية بأسعار عادلة سيعزز من قدرة المزارعين على مواصلة العمل وتحسين الإنتاج.

جانب آخر لا يمكن إغفاله هو التحديات الاقتصادية. التكلفة العالية للمدخلات الزراعية مثل الأسمدة والبذور والمعدات الزراعية تشكل عبئاً كبيراً على المزارعين، خاصة في المناطق الريفية التي تعاني من ضعف البنية التحتية وارتفاع تكلفة النقل. ولهذا، فإن توفير الدعم الحكومي على شكل إعانات أو قروض ميسرة سيكون عاملاً مهماً في تحفيز الإنتاج وزيادة المساحات المزروعة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن التدريب والتأهيل يعدان ركيزة أساسية لضمان نجاح أي خطة زراعية. المزارعون بحاجة إلى اكتساب المهارات والمعرفة التي تمكنهم من التعامل مع التكنولوجيا الحديثة وتطبيق الأساليب الزراعية المتطورة. وهنا يأتي دور الجامعات والمعاهد التقنية المتخصصة التي يجب أن تكون شريكاً رئيسياً في هذا الجهد.

في ظل التقلبات العالمية، أصبح تحقيق السيادة الغذائية للجزائر ضرورة ملحة. الأزمة الروسية الأوكرانية والتوترات الجيوسياسية أظهرت مدى هشاشة الأسواق العالمية واعتماد الدول على الاستيراد لتأمين غذائها. الجزائر، كدولة تسعى لتعزيز استقلالها الاقتصادي والسياسي، تجد في تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي خطوة محورية نحو تحقيق السيادة الوطنية.

السيادة الغذائية ليست فقط قضية اقتصادية، بل هي مسألة استراتيجية تتعلق بالأمن الوطني. فالدول التي تعتمد على استيراد الغذاء بشكل كبير تكون عرضة لأزمات خارجية. سواء كانت سياسية أو اقتصادية. ومن هنا، يأتي الحرص الجزائري على تطوير القطاع الزراعي ليصبح دعامة أساسية للاقتصاد الوطني. وركيزة لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

الجزائر تمتلك مقومات النجاح في هذا المسعى. ولكن لتحقيق الأهداف المرجوة، لا بد من استمرارية الجهود وتكاتف جميع الفاعلين في القطاع. التعاون بين الحكومة والمزارعين والمؤسسات العلمية هو المفتاح لتحقيق الاكتفاء الذاتي. فالحكومة عليها أن تستمر في تقديم الدعم والتسهيلات. والمزارعون يجب أن يتبنوا التكنولوجيا والأساليب الحديثة، بينما تلعب المؤسسات العلمية دورها في البحث والتطوير.

في النهاية، يمكن القول إن موسم الحرث والبذر 2024-2025 يمثل خطوة حاسمة نحو تحقيق الأمن الغذائي في الجزائر. ومع التحديات التي لا تزال قائمة، يبقى الأمل كبيراً في أن تثمر هذه الجهود على المدى القريب والبعيد. إذا نجحت الجزائر في تحقيق هذا الهدف، فإنها لن تؤمن غذاء شعبها فقط، بل ستصبح نموذجاً يحتذى به في المنطقة وفي العالم. في كيفية بناء اقتصاد زراعي مستدام يحافظ على الموارد ويعزز من سيادة البلاد.