افتتاحية سهم الشعب يختار الاستمرارية ومواصلة البناء

“غار جبيلات”…ثالث أكبر احتياط عالمي للحديد بدأ يستيقظ

سهم المشاريع

بدأت الجزائر تتجه بخطوات ثابتة للتخلص من التبعية البترولية وتحصين استقلالها الاقتصادي من عالم المفاجآت الذي تمثله سوق المحروقات والتي كانت آخرها تهاوي أسعار النفط سنة 2014 وما خلفته الأزمة من تداعيات اقتصادية سلبية على الجزائر، وبدأت تبحث عن مصادر أخرى تنعش بها اقتصادها.

وفي احدى لقاءاته مع الصحافة الوطنية تساءل الرئيس تبون عندما قال: “إلى متى ومصيرنا مرهون بتقلبات الأسواق العالمية للبترول؟”، وأكد أن الوقت حان للتركيز بكل عزم وجدية على استغلال مصادر أخرى تخلق الثروة بعيد عن المحروقات، ورأى أن استغلال منجم غار جبيلات قد يكون أحد الحلول الممكنة.

ورغم اهتمام الأنظمة السابقة والحكومات المتعاقبة باستغلال منجم غار جبيلات، الا أنه بقي مجرد اهتمام وحديث في وسائل الاعلام، غير أن أصحاب القرار برئاسة عبد المجيد تبون قرروا الانطلاق رسميا في عملية الاستغلال عبر تنفيذ المرحلة الأولى من المشروع.

وبات اليوم مشروع غار جبيلات يحظى بعناية كبيرة من الحكومة الجزائرية، ضمن خياراتها الاستراتيجية للتخلص التدريجي من التبعية للمحروقات، فقامت بإنشاء مجمع مشترك جزائري-صيني، وإنجاز وحدات إنتاج نموذجية، بتكلفة استثمار في حدود ملياري دولار.

العملاق النائم

ينام منجم غار جبيلات الذي يقع بولاية تندوف الجنوبية على مخزون يفوق 3.5 مليارات طن وفق آخر الأرقام التي كشفت عنها تقارير حكومية ما يؤهله لأن يكون ثالث احتياط عالمي لمادة الحديد، ودخوله مرحلة الاستغلال سيمكّن الجزائر من طرح مليوني طن سنويا لمدة 400 سنة في السوق الدولية للحديد، ليضعها في المرتبة التاسعة عالميّا من حيث التصدير.

وتكشف الأرقام وتوقعات الخبراء أن الطاقة الإنتاجية السنوية لغار جبيلات من خام الحديد ستتراوح بين 2 الى 3 مليون طن في المرحلة الأولى (2022-2025)، ثم 40 إلى 50 مليون طن سنويا ابتداء من 2026، وفي حال تحويل الخام إلى حديد بناء، فان رقم المبيعات سيبلغ 16 مليارات دولار سنويا على الأقل، لكن الوصول الى هذا الرقم الضخم يحتم على الجزائر توفير 6 مركبات ضخمة جديدة لإنتاج حديد التسليح وفتح الآفاق الدوليّة للاقتصاد الجزائري.

وتوفير هذا العدد من المركبات ليس بالأمر المستحيل على الجزائر التي تمتلك اليوم مركب بلاّرة للحديد والصلب، الذي يعد من أضخم المركبات الصناعية للاختزال في العالم، يضاف اليه مركّب الحجّار المصنف ضمن المراتب الأولى في أفريقيا ومركب الحديد والصلب “توسيالي” ببطيوة (وهران).

بداية الاستغلال

ويبدوا أن استغلال غار جبيلات لم يعد مجرد كلام للاستهلاك، حيث بدأت الجزائر فعليا في العمل على الميدان نهاية شهر جويلية 2022، حيث أشرف وزير الطاقة والمناجم، محمد عرقاب على إطلاق أشغال استغلال المنجم، وفي منصف شهر أوت 2022 تم استخراج أول كمية من خام الحديد تقدر ب 1000 طن من المنجم، ووفق هذا المعدل، يمكن أن تكون عمليات الاستخراج القادمة بكميات أكبر قد تبلغ حوالي 100 ألف طن/شهريا بحلول نهاية السنة.

“لقد قمنا بتفجيرين سمحا لنا بالحصول على خندق للوصول الى طبقة خام الحديد، أما التفجير الثالث فقد مكننا من استخراج 1000 طن من خام الحديد”

المدير العام المساعد للمؤسسة الوطنية للحديد والصلب (فيرال)، رضا بلحاج.

وتم نقل نصف كميات خام الحديد المستخرجة حتى الآن نحو ولاية وهران ليتم تصديرها نحو كل من الصين وروسيا، أما النصف الاخر فتم تخصيصه لتموين مصانع الحديد والصلب النشطة في الجزائر.

كما يخطط المجمع العمومي لنقل البضائع واللوجيستيك (لوجيترانس) بنقل خام الحديد عبر الشاحنات الى بشار حيث سيتم تحويله وتثمينه من قبل متعاملين يرغبون الاستثمار في هذا المجال ريثما يتم انجاز خط للسكة الحديدية بين بشار ومنجم غار جبيلات.

اكتفاء ذاتي

تستورد الجزائر ما لا يقل عن 600 ألف طن سنويا من مشتقات الصلب لتغطية 20% فقط من حاجيات الإنتاج الوطني، وهو ما تزيد قيمته عن 5 مليارات دولار تصرف سنويا من خزينة الدولة، لكن مع استغلال غار جبيلات ستضمن الجزائر اكتفاءها الذاتي، اذ تعول الحكومة تخصيص مالا يقل عن 5 ملايين طن سنويا للسوق الوطنية وتصدير الفائض للخارج.

ومن أجل ضمان تحويل خام الحديد محليا، وضعت الحكومة الجزائرية دفتر شروط خاص وأعلنت عن مناقصة دولية مفتوحة للاستثمار في منجم “غارا جبيلات” واختيار الشركاء الراغبين في الاستثمار ومرافقة الوحدات الصناعية المتخصصة في صناعة الحديد والصلب.

ويمكن أن يسوق معدن الحديد على شكل خام أو على شكل مركز (معدن منزوع الفسفور جزئيا) أو كريات (تغليف المعدن) أو مسحوق حديد مختزل (PDR)، والذي يعتبر إضافة لمادة الحديد.

ويرتقب في اطار هذا المشروع استحداث، قبل نهاية 2022، مؤسسة جزائرية-صينية تكلف باستخراج المعدن ومصنع آخر في بشار يسمح للطرف الصيني باستخدام المعدن لإنتاج السبائك وهي منتوج شبه نهائي من صناعة الحديد يستخدم في إنتاج حديد التسليح والقضبان الحديدية. كما سيسمح المشروع ايضا بإنشاء مصنع لإنتاج السكك الحديدية، في بشار كذلك، والذي سيستخدم البليت المحلي لصناعة السكك.

فوائد اجتماعية واقتصادية

وانجاح هذا المشروع الضخم سيعود بفوائد اجتماعية واقتصادية على كل الوطن عموما وعلى منطقة تندوف والجنوب الغربي الجزائري بصفة خاصة، إذ أن المشروع يوفر في بدايته 3 آلاف فرصة عمل مباشرة، في حين يستوعب آلافا من فرص العمل غير المباشرة، ويحوّل المنطقة إلى قطب اقتصادي كبير مفتوح على الساحل وغرب أفريقيا عبر الحدود الموريتانية.

كما سيساهم المشروع بشكل مباشر في خلق وتطوير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتطوير السكن والهياكل الاجتماعية في المنطقة.

عراقيل وتحديات

ومقابل هذا التفاؤل الاقتصادي، فإن هذا المشروع تواجهه تحديات هائلة على مستويات عدة، أبرزها صعوبة استغلاله من الجانب التقني، بسبب محتواه العالي من الفوسفور، غير أن الجزائر تعول على التكنولوجيا الروسية في هذا المجال والتي أظهرت فعاليتها في مشاريع أخرى.

وإلى جانب ذلك، تظهر تحيات أخرى تتعلق أساسا بحاجة المياه المقدرة بـ3 ملايين متر مكعب سنويا، وتوفير الطاقة (الغاز الطبيعي)، ونقل معدن الحديد سواء بالسكة الحديد أو عن طريق الأنابيب أو شبكات كهربائية لاستخدام شاحنات تعتمد على ضوء الشمس.

ولضمان نجاح المشروع في مواجهة العقبات الطبيعية والتقنية واللوجستية المذكورة، تعول الجزائر على تطوير شبكة سككها الحديدية وإنجاز أخرى جديدة لما تفتحه من آفاق وفرص استثمار بالجنوب الغربي للبلاد في مختلف القطاعات، فضلا عن مداخيل الخزينة من الجباية والعملة الصعبة.

وبمثل هذه المشاريع تعول السلطات الجزائرية على خلق نموذج اقتصادي جديد بعيدا عن الريع الذي اعتمد عليه اقتصاد البلاد منذ عقود، نموذج اقتصادي يساهم في دفع عجلة التنمية ويعزز الآلة الإنتاجية الوطنية، وبالتالي تحصين الاستقلال الاقتصادي للبلاد.