ألقت الأزمة الأخيرة بين روسيا وأوروبا التي يلعب الغاز دورا مهما في هذه المعادلة بظلالها على الجزائر وأعطتها فرصة جديدة لتأكيد علاقاتها الاستراتيجية مع موسكو وإعادة ترتيب علاقاتها الاقتصادية مع بعض الدول الأوروبية، ومع استمرار الحرب في أوكرانيا وبحث أوروبا عن بدائل للغاز الروسي، تظهر الجزائر كأحد الحلول التي يمكن التعويل عليها.
ومنذ بداية الأزمة بين روسيا وأوكرانيا وما ترتب عنها من فرض عقوبات اقتصادية غربية على صادرات الطاقة الروسية كورقة ضغط على موسكو، تحرك القادة الأوروبيون من أجل تعويض الغاز الروسي واتجهت أنظارهم الى الجزائر في منطقة شمال افريقيا التي تعتبر في نظرهم واحدة من بين الحلول القليلة التي يمكنها التقليل من حدة الأزمة الطاقوية في أوروبا.
زيارات ومكالمات
ومنذ الرابع والعشرين من فبراير الماضي تاريخ بداية الأزمة، تزايد عدد الزيارات التي قام بها مسؤولون أوروبيون وغربيون عموما إلى الجزائر وتزايدت معها سلسلة المشاورات والمكالمات الهاتفية التي أجراها مسؤولين غربيين سامين مع نظرائهم في الجزائر.
وخلال شهر أبريل فقط، حل بالجزائر كل من رئيس وزراء إيطاليا ماريو دراغي وقبله وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، كما تلقى الرئيس عبد المجيد تبون مكالمات هاتفية من قبل كل من أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فضلا عن جولات ماراطونية قام بها وزير الخارجية رمطان لعمامرة الى عدة دول أبرزها روسيا وأوكرانيا فيما يخطط لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية قبيل نهاية الشهر.
وان تناولت هذه اللقاءات والمكالمات سبل تعزيز التعاون الثنائي واستعراض بعض المستجدات الإقليمية والعربية على غرار الوضع في فلسطين ومسألة الصحراء الغربية، الا أن الحرب الأوكرانية وما ترتب عنها من أزمة طاقة في أوروبا والكيفية التي يمكن أن تساهم بها الجزائر في حلها، ومدى قدرتها على زيادة الإنتاج من الغاز الطبيعي أخدت الحيز الأهم.
أسباب الزيارات
ويكمن السبب الرئيسي لزيارة بلينكن الى الجزائر حسب متابعين كون واشنطن “ترى في الجزائر خطة بديلة لحل أزمة الغاز في أوروبا، باعتبارها ثالث مصدر للغاز نحو أوروبا، خاصة مع انتهاج روسيا لمسار الحرب الاقتصادية على دول غرب أوروبا، بتصدير الغاز للصين والهند بأقل الأسعار، وفرض شراءه بالروبل على الدول الأوروبية”.
كما اعتبروا أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد من الجزائر “زيادة نسبة ضخ الأنبوب المتجه نحو ايطاليا المَّار عبر تونس لإيجاد بدائل لطاقة متدفقة نحو أوروبا”
رئيس مخبر “الاستشارة في المخاطر في شمال افريقيا”، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة فوردهام الأمريكية، جاف بورتر، في تحليل نشره مخبر التفكير “المعهد الأمريكي للشرق الأدنى” لا يوافق هذا الطرح بشكل عام، وقال أن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا “يريدون التأكد من أن الحكومة الجزائرية حتى وإن لم ترغب في زيادة صادراتها فستسلم وبشكل آمن كميات الغاز التي التزمت بها، خاصة في حال توقف التموينات الروسية”.
ولم تتوانى مختلف التصريحات التي أدلى بها المسؤولون الجزائريون في طمأنة زبائن الجزائر والتأكيد بأنها ممون طاقة موثوق وأنها ستحترم عقودها الخاصة بتموين أوروبا بالغاز رغم غلقها للأنبوب العابر من المغرب في أعقاب توتر العلاقات السياسية بين البلدين.
وبخصوص المكالمة الهاتفية التي جمعت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والجزائري عبد المجيد تبون يقول متابعون أنها جاءت “تزامنا مع الوضع الأوكراني وما انجر عنه من تداعيات على الاقتصاد العالمي، وذلك فيما يخص بحث ضمان الاستقرار في أسواق الطاقة العالمية”.
وروسيا من وراء هذه المكالمة فانها “تكثف من جهودها في التوسع والتوجه نحو الدول الصديقة لحماية مصالحها الاقتصادية”، إضافة إلى “التأكيد على التنسيق الثنائي في قطاعي الطاقة والغاز (أوبك+)، في إطار منتدى الدول المصدرة للغاز، باعتبارهما منتجين استراتيجيين مهمين للغاز في العالم”.
كما أن روسيا يهمها كثيرا أن يبقى “أنوب الغاز المغاربي المارِّ عبر المغرب نحو دول الاتحاد الأوروبي مغلقا”، وهو ما معناه استمرار “حاجة دول غرب أوروبا وحلف النيتو للغاز”.
قدرة الجزائر
وعلى الرغم من وضع الجزائر على خارطة الدول التي يعوّل عليها في تعويض جزء من الغاز الطبيعي الروسي، الا أن متتبعين وخبراء الطاقة سواء في الجزائر أو في الضفة الأخرى يستبعدون أن تستطيع الجزائر تعويض الغاز الروسي في أوروبا بالنظر لعدة معطيات تبقى خارج قدراتها وطاقاتها خلال المستقبل القريب على الأقل.
وفي هذا الصدد، يرى خبراء بمعهد أوكسفورد لدراسات الطاقة أن الجزائر “ليست لديها طاقة فائضة من الغاز الطبيعي، أو حتى إمكانية رفع إنتاج الغاز بمعدلات كبيرة على المدى القريب”.
وفي ذات الاتجاه سار خبير الطاقة في مركز بروغيل للأبحاث في بروكسل جورج زاكمان عندما قال في تصريح له نشر مؤخرا في صحيفة “أوغسبورغر ألغماينه” الألمانية أن الجزائر “لا يمكنها أن تنتج كميات أكبر من الغاز بين عشية وضحاها”، حتى لو كان لدى البلاد “احتياطيات كبيرة جدا من الغاز”.
وفي الجزائر، لا تختلف آراء الخبراء كثيرا عن نظرائهم الغربيين، حيث أشاروا أن الجزائر ليست لديها طاقة فائضة من الغاز الطبيعي على المدى القصير، وأن خيار الجزائر لإنقاذ أوروبا وتخليصها من الاعتماد على الغاز الروسي “لا يمكن تحقيقه”.
وقال المحلل الجزائري، حكيم بوغرارة، إن “الجزائر لا تستطيع تعويض الغاز الروسي، لكن بإمكانها أن ترفع صادراتها من الغاز لأكثر من 43 مليار متر مكعب”.
هذه التوقعات سبقتها تصريحات من الرئيس المدير العام لمجمع سوناطراك توفيق حكار الذي أكد بصريح العبارة أن “الجزائر ليست قادرة في الوقت الراهن على تعويض الغاز الروسي على الرغم من أنها تتوفر حاليا على بعض المليارات من الأمتار المكعبة الإضافية”، لكنه بالمقابل لم يغلق الباب بشكل مباشر أمام الأوروبيين عندما استطرد قائلا “من خلال وتيرة استكشافاتنا فإن قدراتنا ستتضاعف في غضون أربع سنوات مما ينبئ بآفاق واعدة مع زبائننا الأوروبيين”.
سياسة الجزائر
ويرى عدد من المتتبعين أن الجزائر التي تعد “حليف تاريخي لروسيا” وتربطها علاقات متينة أخرى مع الولايات المتحدة الأمريكية فضلا عن علاقات وشراكات اقتصادية مع أوروبا تعتمد بشكل مباشر على حنكة دبلوماسيتها الخارجية من أجل بسط سيادتها وعدم انقيادها وراء الضغوطات الخارجية من جهة والمحافظة على علاقاتها الجيدة مع جميع شركائها من جهة أخرى.
ويؤكد الخبير في الشؤون الأمنية والاستراتيجية البروفيسور محند برقوق هذا الطرح لإذاعة الجزائر بقوله أن “السياسية الخارجية الجزائرية تقوم بالأساس على التوازن في العلاقات الدولية وتجمعها شراكات مع تركيا والصين وروسيا كما أنها منخرطة في حوار استراتيجي وعسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية وشراكة اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي في ظل احترام سيادة الدول والعمل على ترقية مبدا الحوار والعمل دائما في اطار الشرعية الدولية وحل النزاعات بالطرق السلمية”.
مداخيل أكثر
والظاهر أن الأزمة في أوكرانيا وتداعياتها في أوروبا قد تنعكس بالإيجاب على اقتصاد الجزائر في ظل ارتفاع أسعار المحروقات بما فيها أسعار الغاز الطبيعي في الأسواق الدولية وهي النقطة التي لا تريد الجزائر تفويتها من أجل دعم اقتصاد البلد الذي بدأ يتعافى تدريجيا منذ تقلد الرئيس عبد المجيد تبون حكم البلاد بعدما فتح النار على الفساد وقام بإجراءات استباقية للحد من تداعيات جائحة كورونا الاقتصادية.
ووفق المحلل بوغرارة فان الفرصة مواتية للجزائر لطلب شراكات واستثمارات لرفع الإنتاج، كما أن الجزائر قد تستغل الظرف، لطلب تمويل مشروع خط أنابيب نيجيريا الجزائر عبر النيجر، لضمان كميات أكبر لأوروبا قد تتعدى 20 مليار متر مكعب سنويا.
من جهة أخرى، قامت الجزائر مؤخرا برفع أسعار نفطها “صحاري بلاند” وتدرس بشكل جدي رفع أسعار غازها الطبيعي أيضا وهو ما أشار إليه رئيس مجمع سوناطراك توفيق حكار في تصريحه لوكالة الأنباء الجزائرية (وأج) بأنه “منذ بداية الأزمة في أوكرانيا انفجرت أسعار الغاز والبترول…والجزائر ستتماشى مع هذه التغيرات”.
وكانت تربط الجزائر مع زبائنها الأوروبيين عقود طاقة غير مجزية وُقعت بين عامي 2018 و2019 بأسعار رخيصة ولفترات تتراوح بين 5 و10 سنوات، غير أنها خلال العام الجاري أقرت تعديلات مجزية على معظم عقود الغاز المصدرة إلى دول أوروبية تشمل إيطاليا واسبانيا والبرتغال.