لما تداول نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأسابيع الماضية صورا وفيديوهات لعشرات الشاحنات متوجهة نحو جنوب البلاد لشحن كميات القمح إلى مراكز التخزين، راح البعض يتهم باستغلال تكنولوجيا “الذكاء الاصطناعي” لإنتاج مشاهد مفبركة قصد تحقيق “مكانة زراعية” في المنطقة.
يبرز متابعون أن ما تحقق هذا العام، هو نتاج سياسة رشيدة وتسيير محكم وجهود مبذولة قامت بها الحكومة الجزائرية خلال السنوات الأخيرة كرد فعل لتعزيز إنتاجها الفلاحي واستغلال قدراتها الزراعية بما يقلل من تبعيتها الخارجية ومضاعفة محاصيلها بما يخدم أمنها الغذائي.
ويقول الخبير الاقتصادي عبد القادر بريش في تصريح لـ “سهم ميديا” أن “التحولات الجيوسياسية التي يعرفها العالم الآن على غرار جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا وتغير المناخ جعلت الأمن الغذائي يعد من الأولويات”.
ويضيف أن “الجزائر استطاعت بفضل جهود مبذولة خلال سنوات قليلة أن تحقق الحد الأدنى من مقومات الأمن الغذائي التي تضمن الاستقرار والسيادة الوطنية”.
أرقام ومعطيات
ويصنف المنتدى الاقتصادي العالمي “دافوس” في تقريره لسنة 2023 الجزائر من بين البلدان “الرائدة” عالميا في مجال ضمان الأمن الغذائي عن طريق إنتاجها الوطني.
وتضاف نتائج هذا التقرير إلى تلك التي خلصت إليها منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “فاو” حيث صنفت الجزائر في المرتبة الأولى على المستويين العربي والإفريقي خلال ثلاث سنوات متتالية (2020 و2021 و2022) من حيث تجسيد أهداف التنمية المستدامة الخاصة بالأمم المتحدة في مجال الأمن الغذائي.
وتعكس هذه الأرقام والمعطيات الإرادة السياسية الحقيقية للجزائر الجديدة من خلال النظرة الاستشرافية لرئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الذي أدرج ضمن التزاماته ال 54 ضرورة وضع خطة استعجالية لتطوير القطاع الزراعي ومكننته بهدف ضمان الأمن الغذائي وتلبية الاحتياجات الوطنية والقضاء على التبعية الغذائية.
زراعة ذكية لأمن غذائي شامل
ولأن تحقيق الأمن الغذائي الشامل في الجزائر ليس أمرا مستحيلا لكن في الوقت نفسه مهمة صعبة وتحتاج الى أرقام أكبر، يتحتم على السلطات الحكومية تسخير ما يلزم من إمكانات مادية وتقنية وتكنولوجية وعلمية لتحقيق هذا المبتغى.
وفي ظل التحديات المتزايدة التي تواجه تحقيق الأمن الغذائي في الجزائر، تتسع ضرورة تبني تكنولوجيا حديثة ومفهوم جديد للزراعة يتيح التحكم الكامل في العوامل البيئية واستخدام الموارد بكفاءة عالية، وهو ما يعرف ب“الزراعة الذكية”.
وتوصف هذه الزراعة بـ”الذكية” لأنها تستخدم الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحديثة لترشيد استخدام الموارد الطبيعية ولاسيما المياه، وكذا الشأن بالنسبة إلى استخدام الأسمدة الكيميائية، ومن أهدافها الأساسية رفعَ الإنتاج بشكل مستدام والتكيفَ مع الظروف المناخية وخفضَ الغازات المتسببة في ظاهرة الاحتباس الحراري وتحسينَ الأمن الغذائي والمساهمةَ في تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
وتتجلى أهمّ التقنيّات التي تعتمدها الزراعة الرقميّة من حول العالَم في أجهزة الاستشعار عن بُعد وتكنولوجيا نظام التموضُع العالَميGPS ، واستخدام الطائرات من دون طيّار والروبوتات بالإضافة الى المركبات ذاتيّة القيادة.
ومن بين الأدوات الذكية أيضا، تطبيقات الهاتف التي تساعد على تشخيص أمراض النباتات وتحديد الأدوية الفعالة لمعالجتها، بعيدا عن اللجوء الممنهج لاستعمال المبيدات بشكل عشوائي، كما تساعد هذه التطبيقات في عملية السقي عن بعد بشكل منتظم، وتسمح بترشيد استهلاك الماء في ظل ظاهرة الجفاف وشح الأمطار ما يساهم في تحقيق الأمن المائي.
وتتيح هذه الأجهزة المتقدّمة، ونُظُم الزراعة الدقيقة والروبوتات للمُزارِع زراعةً أكثر ربحيّةً وكفاءةً وأمناً ومُراعاةً للبيئة، مُقابل تراجُع الزراعة التقليديّة تدريجيّاً، والتي تُعَدُّ من أكبر مَصادر التلوّث، وخصوصاً انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، الذي أَسهَمَ سلباً في تغيُّر المناخ على مستوى العالَم.
الذكاء الفلاحي…المستقبل
ويرى تقرير لمجلّة “فوربس” الأميركيّة أنّه يجب على كلّ العاملين في هذا المجال الفلاحي سواء كانوا مُزارعين أم مُنتجي أغذية، الاستجابة للتحوّلات الرقميّة الجارية في الزراعة والأهم من ذلك توظيف التكنولوجيا بوصفها مَورداً مُستداماً وقابلاً للتطوير.
ويقدر المنتدى الاقتصادي العالَمي أنّه إذا استَخدمت 15 الى 20% فقط من المَزارِع الموجودة في العالَم تقنيّات الزراعة الرقميّة فإنّ نسبة إنتاج الغذاء في العالَم ستزيد بنحو 10 الى 15%. وستقلّ الانبعاثات الغازيّة الملوِّثة للبيئة بنسبة 10%. وسيتمّ توفير 20% من كميّة المياه المُستخدَمة في العمليّات الزراعيّة. متوقّعاً أن تكون هذه التقنيّات هي السائدة في القطاع الزراعي في المستقبل القريب.
تحول رقمي… وزراعة ذكية
وتؤكد الأستاذة في مجال الفلاحة نجاة بن خرباش، في حديثها مع “سهم ميديا” على “ضرورة التحول الرقمي في المجال الفلاحي والاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الجزائر”.
وتلفت بن خرباش إلى ضرورة التوجه الفعلي نحو توظيف الذكاء الاصطناعي واستعمال التقنيات الزراعية الحديثة التي يمكنها تعويض النقائص الموجودة في الميدان.
وتقول في هذا الصدد “من خلال استغلال الذكاء الاصطناعي، يمكن تعويض نقص اليد العاملة بالمزارع الذكية التي تسمح بتسيير كل المسار التقني من البذر الى الحصاد”.
كما تشير المتحدثة الى ظاهرة الجفاف وشح الأمطار التي تشهدها الجزائر في السنوات الأخيرة وتؤكد أن “اللجوء الى الاعتماد على مياه السقي أصبح من الضروريات”.
لكن بالمقابل تشدد بن خرباش على ضرورة الاستغلال العقلاني لهذه المياه والاستغلال الأمثل حسبها هو “اللجوء الى الاستغلال الذكي أي استغلال الذكاء الاصطناعي في مجال السقي”.
توجه الجزائر
سطرت الجزائر خارطة طريق أدرجت ضمن برنامج عمل الحكومة المستمد من برنامج رئيس الجمهورية، والتي تركز، بالأخص، على توظيف التقنيات والتكنولوجيا الحديثة، وتطوير الفلاحة الصحراوية وترقية الاقتصاد الأخضر واستعمال الطاقات المتجددة وكذا الاعتماد على الجامعة كشريك مهم في ترقية الابتكار والبحث.
وتتجه الجزائر إلى تبني عدة سياسات تنموية زراعية من خلال التحول من الزراعة التقليدية التي تعتمد على تهيئة التربة لزرع البذور واستخدام الأسمدة واستعمال المبيدات لمكافحة الآفات والأمراض الى زراعة ذكية ورقمية تساعد على إنتاج المزيد من الغذاء باستخدام موارد أقل، وجني أموال أكبر.
ويؤكد عبد القادر لعريبي – أستاذ متخصص في استخدام التكنولوجيات الحديثة في مجال الزراعة – أن الجزائر “تعمل على تبني التكنولوجيات الحديثة في مجال الزراعة مع بذل جهود معتبرة من أجل تعزيز استخدامها من خلال تطوير مشاريع المزارع الذكية وأيضا التسويق الرقمي للمنتجات الرقمية”.
ويبدأ هذا التوجه من خلال رقمنة برامج القطاع وإعطاء أهمية كبيرة للبحث العلمي المتخصص في مجال الزراعة والتشجيع على الابتكار الزراعي من خلال حث الباحثين على ربط معظم الأراضي الزراعية بالتقنيات الرقمية الجديدة ودعم أصحاب المشاريع المصغرة وتقديم التسهيلات للشباب الراغب في الاستثمار الزراعي وتعميم الطاقات المتجددة في الري واستخدام الطاقة الشمسية في الضخ بدلا من المحركات الزيتية.
لكن بالمقابل، يشير لعريبي الى تحديات تواجه هذا التحول الرقمي “تشمل التأهيل والتدريب على التكنولوجيا الحديثة للفلاحين وتوفير البنية التحتية للاتصالات والأنترنت عالي السرعة خاصة في المناطق الريفية مع ضمان توافر البيانات والمعلومات الزراعية بشكل مستمر ومتواصل”.
ولرفع هذه التحديات وتجاوز العقبات في الميدان “يتطلب التعاون بين الحكومة والقطاع الخاص والمؤسسات التعليمية والبحثية” يقول عبد القادر لعريبي.
ويؤكد لعريبي أنه لو يتم توفير ذلك “سنشهد طفرة زراعية في الجزائر خلال الأعوام القليلة المقبلة، تجعل من البلاد أنموذجاً يقتدى به في إنتاج ما تأكله”.
تحدي مرفوع
التحدي الذي رفعته الجزائر بدأ بفتح مدرستين وطنيتين للزراعة، للمساهمة في ربط المشاريع الزراعية بالأبحاث العلمية الحديثة والاعلان عن مشروع فلاحي جديد يتعلق بتعميم البيوت البلاستيكية الذكية بهدف زيادة إنتاج المحاصيل الزراعية.
كما تم إنشاء “قطب فلاحي غذائي” و”بنك للبذور” واستحداث قريب لـ “بنك الجينات”، بالإضافة الى ذلك قرار تحويل المزارع النموذجية إلى مشتلة للثروة الحيوانية والنباتية، كقاطرة للبحث وتطوير قطاع الفلاحة ضمن عجلة تنمية الاقتصاد الوطني. وبناء على ذلك سخرت الجهود البحثية والموارد المالية، ما يجعل من تجربتها في هذا القطاع نموذجاً ملهماً.
وتعبر كل هذه الخطوات عن إرادة سياسية وتوجه جديد في الجزائر الجديدة نحو استعمال التكنولوجيا المتطورة بما فيها الذكاء الاصطناعي لترقية النشاط الزراعي وزيادة وتحسين الكفاءة الإنتاجية للمحاصيل وليس لخلق مشاهد مفبركة تحقق “مكانة زراعية” وهمية كما يدّعى البعض.